الاثنين، 10 أكتوبر 2011

مفهوم الهندسة المالية


مؤسسات الأعمال في مسيرتها الممتدة من الماضي إلى الحاضر واجهت – وستواجه في قابل أيامها- تغيرات متعددة، وتقلبات كبيرة، قد تكون متوقعة أو غير متوقعة، إلا أنها تشكل في نهاية الأمر تهديدا لتلك المؤسسات، وخطرا جسيما عليها، فإما أن تحُدَّ من وتيرة نشاطها، أو تحمِّلَها خسائر فادحة، أو تقضي عليها نهائيا بالإفلاس.
فمن الطبيعي أن تسعى تلك المؤسسات وتكثف جهودها وأنشطتها لمواجهة التهديد، وامتلاك القدرة على الصمود في وجه العواصف النواسف، وإلا كانت في خبر “كان” وفعلا  قامت بكل ما بوسعها لابتكار وتطوير أسلحة مالية للدفاع، تمكنها من إدارة هذه المخاطر، أو التحوط منها، فكان مصطلح “الهندسة المالية” عنوانا لتلك الممارسات والابتكارات.
ومن هنا ندرك أن “مفهوم الهندسة المالية قديم قدم التعاملات المالية، لكنه قد يبدو حديثا نسبيا من حيث المصطلح والتخصص[1]، وإذا أردنا تعريف الهندسة المالية فإننا سنقف على عدد من التعريفات المستخلصة من وجهات نظر الباحثين الذين يطورون النماذج والنظريات، أو مصممي المنتجات المالية التقليدية[2]، وليس هدف هذه الورقة بسط القول في الهندسة المالية، وإنما إشارة وتوطئة ممهدة للحديث عن الاشتقاق المالي، ولذا سيكتفي الباحث بإيراد تعريفين فقط لعل فيهما ما يفي بالمقصود.
الخبير الاستشاري نشأت عبدالعزيز يعرف الهندسة المالية بأنها(( تصميم وتطوير وتطبيق عمليات وأدوات مالية مستحدثة، وتقديم حلول خلاقة ومبدعة للمشكلات الاقتصادية والمالية))[3].
الدكتور والخبير المالي سامي السويلم أورد تعريفا لأحد المهندسين الماليين الغرب في سياق انتقادي، وهذا نص كلامه ( يُعرِّف بعض الباحثين الهندسة المالية بأنها: “التصميم والتطوير والتنفيذ لأدوات مالية مبتكرة، والصياغة لحلول إبداعية لمشاكل التمويل” وهو بذلك يشير إلى أن الهندسة المالية تتضمن ثلاثة أنواع من الأنشطة:
1-              ابتكار أدوات مالية جديدة مثل بطاقات الائتمان.
2-              ابتكار آليات تمويلية جديدة من شأنها تخفيف التكاليف الإجرائية لأعمال قائمة مثل التبادل من خلال الشبكة العالمية.
3-              ابتكار حلول جديدة للإدارة التمويلية مثل إدارة السيولة، أو الديون، أو إعداد صيغ تمويلية لمشاريع معينة تلائم الظروف المحيطة بالمشروع.
والابتكار المقصود ليس مجرد الاختلاف عن السائد، بل لا بد أن يكون هذا الاختلاف متميزا إلى درجة تحقيقه لمستوى أفضل من الكفاءة والمثالية، ولذا لا بد أن تكون الأداة أو الآلية التمويلية المبتكرة تحقق ما لا تستطيع الأدوات والآليات السائدة تحقيقه.
وعليه فيمكن إجمال مفهوم الصناعة المالية بأنها: ” ابتكار لحلول مالية” فهي ترتكز على عنصر الابتكار والتجديد، كما أنها تقدم حلولا فهي بذلك تلبي احتياجات قائمة، وتستغل فرصا أو موارد معطلة، وكونها مالية يحدد مجال الابتكار في الأنشطة الاقتصادية سواء في التبادل أو التمويل).[4]
الحاجة أم الاختراع
الابتكار والتطوير أساس الهندسة المالية، فلماذا الابتكار المالي؟ ولماذا الهندسة المالية؟
في مستهل هذه التوطئة تقدمت إشارة أو تلميح قد يجيب على هذا التساؤل، ولكن يمكن إجمال ما توصلت إليه النظريات التي تولَّت الإجابة على السؤال المتقدم في أنها: “استجابة لقيود معينة تعوق عن تحقيق الأهداف الاقتصادية كالربح والسيولة وتقليل المخاطرة، وهذه القيود قد تكون قانونية مثل منع عقود أو تعاملات معينة قانونا، أو قيودا تقنية مثل صعوبة نقل منتجات معينة، أو تحويل مواد إلى أخرى، أو قيودا اجتماعية مثل تفضيل نوع معين من المنتجات على أخرى، وبكلمة وجيزة: “الحاجة أم الاختراع[5]
سلاح ذو حدين
قد يساهم الابتكار المالي في عدم الاستقرار الاقتصادي كما يفهم من تعريفه بحسب الأصل فهو خروج عن السائد، ولكنه في الوقت نفسه السلاح الفعال الذي تواجه به المؤسسات الاقتصادية التهديدات التي تتلقاها من لدن التقلبات والتغيرات الخطيرة في مناخ المال والأعمال، فكان بذلك سلاحا ذا حدين.
فالابتكار نافع ومفيد حينما يحقق المصالح المشروعة، إذ يرفع الكفاءة الاقتصادية والإنتاجية ومن ثَم يزيد في مستوى الرفاهية، وهذه الزيادة في الرفاهية تعادل ما قد يحدث من عدم استقرار بطبيعة الابتكار، لكن إذا خلا الابتكار من هذه الإيجابيات وكان المقصود به هو مجرد تجاوز الأنظمة وتخطي السياسات لزيادة الربحية فسوف يؤدي بطبيعة الحال إلى عد استقرار الأسواق المالية دون مقابل من الرفاه الاقتصادي[6]. وفي سطور قادمة من هذه الورقة سوف نقف – بإذن الله تعالى- على ما يشهد لما تقدم.
الهندسة المالية الإسلامية
لم يعد التساؤل المطروح اليوم: هل يوجد اقتصاد إسلامي مستقل عن الاقتصاد القائم السائد اليوم؟ ذلك التساؤل الذي ينبع من ناس تمتلئ أدمغتهم تصورات وأفكارا إما أن تكون صادرة من جهلهم المطبق بالإسلام ومبادئه، وإما من جحد للحقيقة، ونكران للواقع، أيا كانت الدوافع، وعلى كل حال فإن مرحلة الرد على هذه التساؤلات قد ولَّتْ وانقضتْ فقد أثبت الاقتصاد الإسلامي وجوده وفرض نفسه على الواقع، فاعترف الجميع – سوى أصوات نشاز[7]- بوجود اقتصاد مستمد من الإسلام ومبادئه وقواعده العامة، ولكن التساؤل الذي يختلج في صدور البعض الآن هو هل هناك هندسة مالية إسلامية؟ وماذا يميزها عن الهندسة القائمة ( التقليدية)؟ وهل نحن بحاجة فعلا إلى هندسة مالية أو صناعة مالية إسلامية؟
لا يزال علماؤنا وخبراؤنا الاقتصاديون يسطرون بأقلامهم المعطاءة إجابات عن مختلف التساؤلات، وتوضيحات لشتى الإشكالات، وهذه الورقة محاولة لقراءة متواضعة في جانب من إفرازات الهندسة المالية، وهو الاشتقاق المالي من وجهة النظر الإسلامية، وقبل الانطلاق وحسَب الخطة المرسومة تجدر الإجابة ولو بشكل موجز عن التساؤلات السابقة لتكون خاتمة للتوطئة عن مفهوم الهندسة المالية، وتمهيدا للدخول في الموضوع الرئيس للورقة.
مفهوم الهندسة المالية الإسلامية:
من حيث الواقع فإن الصناعة المالية الإسلامية وُجدت منذ أن جاءت الشريعة بأحكامها المطهرة، وربما كان في توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لبلال المازني – رضي الله عنه – حين أراد أن يبادل التمر الجيد بالتمر الرديء، فقال صلى الله عليه وسلم:( لا تفعل، بع بالدراهم، واشتر بالدراهم جنيبا). إشارة إلى أهمية البحث عن حلول تلبي الحاجات الاقتصادية دون إخلال بالأحكام الشرعية[8].
إذا علمنا أن الهندسة المالية الإسلامية قديمة قدم الشريعة، فما هو تعريف هذه الهندسة؟ وماذا يميزها عن غيرها، وهل تدعو إليها ضرورة؟
الأستاذ فتح الرحمن علي محمد صالح يعرف الهندسة المالية الإسلامية تعريفا شبيها بالتعريف السابق للهندسة التقليدية، ويضيف عليه ما يميز بين الهندستين، فيقول:( هي مجموعة من الأنشطة التي تتضمن عمليات التصميم والتطوير والتنفيذ لكل من الأدوات والعمليات المالية المبتكرة إضافة إلى صياغة حلول إبداعية لمشاكل التمويل، وكل ذلك في إطار توجيهات الشرع الإسلامي)[9].
الانطلاق من توجيهات الشرع الإسلامي، نحو التطوير والابتكار المالي، هو الفرق الجوهري بين الهندستين، والحد الفاصل بين الصناعتين.
وعندما نُفضِّل الإجمال في التعريف فيمكن إضافة هذا القيد إلى تعريف الدكتور السويلم المتقدم للهندسة المالية فيقال في تعريف الهندسة المالية الإسلامية بأنها:” ابتكار لحلول مالية وفق قواعد الشرع الإسلامي، وتوجيهاته
لماذا الهندسة المالية الإسلامية؟
تتجلى الحاجة إلى هندسة مالية إسلامية في النقاط الآتية:
1-              البحث عن الحلول التي تلبي الاحتياجات الاقتصادية مع استيفاء قواعد الشرع.
2-              تطور المعاملات المالية في العصر الحاضر، وتزايد عوامل المخاطرة، وتغير الأنظمة الحاكمة يجعل الاحتياجات الاقتصادية معقدة ومتشعبة، ومن ثم تزيد الحاجة للبحث عن حلول ملائمة لها.
3-              التحدي الذي يواجهه الاقتصاد الإسلامي من قبل المؤسسات الرأسمالية يحتم أن تتجاوز الحلول الإسلامية كونها عملية فحسب إلى تحقيق مزايا مكافئة لتلك التي تحققها الحلول الرأسمالية[10]، والسبيل إلى ذلك هو الهندسة المالية الإسلامية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق